عبور الأيدلوجيات
بقلم: هاني أبوالقاسم
فذلكة تاريخية:
ظلت المنظومات السياسية خلال القرون الثلاثة الماضية تنقسم إلى يمين ويسار وقد ظهر هذا المصطلح إبان الثورة الفرنسية في 1789، تعرف الثورة الفرنسية أنها الثورة التي غيرت مسار الواقع السياسي في العالم. حيث كان مناصرو الملك المدعوم بالسلطة الدينية يسمون باليمينيين ومناصرو الثورة التي دعت أن تكون فرنسا جمهورية، سمو باليساريين. وبعد انتصار الثورة وفي البرلمان الفرنسي، أصبح أصحاب الرأي ببقاء فرنسا على أنظمتها القديمة (المحافظون) يجلسون على يمين رئيس البرلمان، بينما يجلس الثوار إلى يساره.
خلال تطور الفكر السياسي العالمي ظل اليمين السياسي يميل إلى السياسات الرأسمالية والمحافظة بينما تسمت المنظومات التي تدعو إلى الاشتراكية بالمنظمات أو الأحزاب اليسارية. ظهر الوسط السياسي لأول مرة في روسيا في بدايات القرن العشرين (1919م) خلال فترة الحرب الأهلية الروسية، وكان مفهوم الوسط هو خيار بين اليسار البلشفي (الأحمر) واليمين -نسبياً- المنشفي (الأبيض)، لكن سرعان ما ذاب الوسط السياسي في روسيا خلال الحرب الأهلية في البلشفية اليسارية.
تعددت بعد ذلك حركات الوسط السياسي حول العالم، وأصبح يُعرف أنه نظام يتبع نوعا من الموازنة بين المساواة (التي يدعو إليها اليسار) والحفاظ على التدرج الاجتماعي (الذي يدعو إليه اليمين). ظل الوسط السياسي في معظم دول العالم يدعو إلى نوع من الحريات الاقتصادية (يمين) مع مراعاة التحكم الاجتماعي والحد من الحريات الفردية (يسار) مثّل هذا التيار في السودان حزب الأمة. كما أن هناك منظومات وسط سياسي دعت إلى العكس، حيث مالت إلى اليسار في الاقتصاد بتبني الاشتراكية وإلى الليبرالية في الحريات الشخصية والمجتمعية (اليمين) ومثّل هذا التيار في السودان الاتحاديون، وفي بريطانيا حزب العمال. وعند الحديث عن الاتحاديين وحزب الأمة، المقصود تحديدا هو انقسام مؤتمر الخريجين بعد 1938م وليس حزبي الأمة والاتحادي بعد تحالف كل منهما على التوالي مع الختمية والأنصار.
عبور الأيدولوجيات:
هو توجه ناشئ في الفكر السياسي الحديث، يقبل وجاهة نظر مختلف الأيدولوجيات ويسعى إلى تجميعها في حاوية براقماتية شاملة متجاوزا الثنائيات السياسية المعروفة (يمينا ويسارا). وهو توجه مختلف عن الوسطية (ثنائية الفكر) التي تتبع أحد الأيدولوجيات السياسية في جوانب وتلتزم بها وتتبع أيدولوجيات سياسية أخرى في جوانب أخرى وتلتزم بها، كما هو مبيّن أعلاه في فقرة الحديث عن الوسط السياسي.
التوجه السياسي العابر للأيدولوجيات، يسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة بين مكونات المجتمع دون انحياز مسبق، متخطيا بذلك الاستقطاب السياسي التقليدي نحو اليسار أو اليمين في أي قضية. يتم إيجاد الأرضية المشتركة عبر أساليب علمية مثبتة تسهل الحوار المجتمعي والمداولات وفض النزاعات المجتمعية والسياسية ويسعى لتشكيل برامج تنفيذية مبنية على مصالح المجتمع ككل عبر اشراك المجتمع المتحاور في صياغة البرامج التنفيذية دون فوقية. يتم صياغة هذه البرامج وفق هدي الحوار المجتمعي بواسطة فرق متكاملة من الخبراء متعددي الخلفيات الأكاديمية والخبرات.
التوجه السياسي العابر للأيدولوجيات الذي تبنته حكومة الظل السودانية منذ إعلان تشكيلها في ديسمبر 2013 ويتبناه الآن حزب بناء السودان، متواجد أيضا في منظمات سياسية متعددة أبزها هو حزب “إلى الأمام” الفرنسي الذي أسسه إيمانويل ماكرون في 2016 واستطاع الحصول على أغلبية مكنت الحزب من الفوز برئاسة الجمهورية الفرنسية في 2017 ليصبح ماركون رئيسا لفرنسا، كما أن الحزب فاز بالانتخابات التشريعية التي تلت ذلك ليشكل الأغلبية البرلمانية. في الولايات المتحدة، أحد أهم منظمات التوجه العابر للأيدولوجيات هي مؤسسة الوسطاء الأمريكية (ميدياتورز فاونديشن) التي تقول عن نفسها ” نحن تيار أميركي صاعد – المحافظون والليبراليون، الوسطيون والمعتدلون. نحن مواطنون أميركيون نخلق جسرا بين الانقسامات المتنامية في نظامنا السياسي. لقد اجتمعنا معاً، في تمدن وحضارة واحترام وطيبة لحل المشاكل معاً.” (المصدر موقع مؤسسة الوسطاء). وكذلك التحالف العابر للأيدولوجيات (ترانسبارتيزان أللاينس) الذي يعرف نفسه قائلا “نحن نربط المواطنون والأفكار بحرية بغض النظر عن الفكر السياسي والديني والعرقي والاقتصادي. إذا لم يعط نظام الحزبين قيادة حقيقية، فسوف نجدها أو ننشئها معا كشعب. نحن، الشعب، نحن التغيير الذي نبحث عنه” (المصدر موقع تحالف سياتل لعابري الأيدولوجيات).
الشعب هو مصدر الوعي:
في التوجه العابر للأيدولوجيات، الشعب هو مصدر الوعي بعكس الحركات والأحزاب السياسية التي تدعي التقدمية والأحزاب العقدية التي تسعى لتوعية الشعب. فالتطور والوعي المجتمعي هو نتيجة لواقع المجتمع الاقتصادي والسياسي والتعليمي والاجتماعي أكثر من كون أن الوعي هو ما يصنع الواقع كما أن التنوع هو مصدر لتعزيز وزيادة الوعي الفردي والمجتمعي. وحيث أن وعي الفرد هو نتيجة لواقعه/بيئته (تعليمه، تجاربه، خبراته، علاقاته الاجتماعية، وضعه الاقتصادي …الخ)، فإن الوعي الفردي قادر على أن يخلق واقعا جديدا ومستقبلا مختلفا للفرد. بنفس السياق التوجه العابر للأيدلوجيات لا يسعى إلى توعية الشعب، بل يسعى إلى توفير حياة كريمة للشعب، كما يتمناها الشعب، وليس كما تتبناه النخب المنحازة لأيدولوجيات مختلفة، ويسعى إلى توفير تحسين (ولو جزئي) مستمر في أوضاعه الاقتصادية والخدمية عبر كل السبل الديمقراطية والقانونية الممكنة والمتاحة، لأن واقع المجتمع هو ما يُشكل وعيه وبالتالي يحسّن مستقبله ويخلق واقعا جديدا نحو الأفضل. باختصار التنمية هي ما يخلق الوعي، والوعي الناتج قادر على خلق تنمية أفضل، تقوم هي بدورها بخلق وعي أفضل وهكذا، في تحسين مستمر على صعيدي التنمية والوعي.