التقدم المهني أم التقدم الأكاديمي
بقلم: هاني أبوالقاسم
يقبل الكثير من الراغبين في تحسين فرصهم وأوضاعهم المهنية (أو الوظيفية) على الحصول على درجات علمية كالماجستير أو الدكتوراه في الوقت الذي اتجه فيه العالم منذ عقود للفصل بين المسارين الأكاديمي من طرف والمسار المهني من طرف آخر.
المسار الأكاديمي (الماجستير والدكتوراه وأبحاث ما بعد الدكتوراه) هي مسارات تُعنى بالدرجة الأولى بتطوير المجال نفسه وليس تطوير صاحب المجال مهنيا، على سبيل المثال: أن يجري طبيب بحثا، لنيل درجة الدكتوراه، حول تأثير المادة (س) على خلايا عضلة قلب الإنسان، لا يجعله هذا بالضرورة طبيب قلب متميز في التشخيص والعلاج، بل قد يكون انشغال هذا الطبيب بهذا البحث فيه توقف لتطور مهاراته المهنية في الكشف والقدرة على المعالجة، بينما أن يسعى هذا الطبيب للحصول على عضوية أو زمالة البورد الأمريكي أو الزمالة السودانية (على سبيل المثال) لأطباء القلب عبر سلسلة من التقييمات والمتطلبات المهنية (كالقيام بالكشف ومعالجة عدد معين من المرضى أو إجراء عدد معين من عمليات القسطرة القلبية تحت إشراف مختص سُمح له بالإشراف والتدريب كمثال) يعد تقدما مهنيا يجعل من هذا الطبيب، طبيبا أفضل في مجال الكشف والمعالجة. ومما لا شك فيه فإن البحث في فائدة المادة (س) لعضلة القلب سيفيد علم أمراض القلب وقد يؤدي إلى اكتشاف أساليب جديدة للمعالجة وهو أمر يفيد العلم والبشرية بشكل أوسع أكثر مما يفيد صاحب البحث مهنيا في مجال معالجة مرضى القلب وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفائدة المادية لصاحب البحث قد تكون مهولة إذا ما تمت مقارنتها بالدخل الذي يتوقعه طبيب قلب مختص بالكشف والمعالجة، خصوصا في حال نجاح هذا الباحث.
ينطبق المثال أعلاه على معظم المجالات، فحامل الماجستير في إدارة الأعمال لا يتمتع بنفس القدرات المهنية مقارنة بالحاصل على شهادة احتراف إدارة المشاريع - Project Management Professional والتي تعرف اختصارا بـ PMP.
كما أسلفت، المساق الأكاديمي يعنى بتطوير المجال أو العلوم نفسها وهو لا شك أمر غاية في الأهمية ومقياس مهم لتقدم الأمم لكنه في المقابل لا ينتج دائما محترفين قادرين على القيام بالمهمات المطلوبة منهم بشكل احترافي. كما أن المساق الأكاديمي مرتبط جدا بالتدريس، حيث أن الدراسة الجامعية وما بعد الجامعية تقوم في أساسها على تحفيز الطالب على التحصيل والبحث العلمي بدلا من تلقينه، لذا يكون أفضل من يستطيع التحفيز على البحث والتحصيل هو باحث في المجال برغم أن التدريس كمهنة أيضا له متطلباته المهنية في عدد من المجالات التي تتطلب تطويرا مهنيا في مجال أساليب التدريس.
تتجه الأسواق المحلية والإقليمية والعالمية إلى استقطاب أصحاب الكفاءات المهنية الحاصلين على مؤهلات تشير إلى تطور أدائهم المهني بدلا من تلك التي تشير إلى تقدمهم الأكاديمي، لأن التقدم الأكاديمي لا يعني بالضرورة الكفاءة المهنية. ولاشك أن مهنيا محترفا حاصل في نفس الوقت على مؤهل أكاديمي هو أكثر حظا حين المنافسة.
ليس المقصود من هذه الأسطر هو تثبيط الراغبين في التوجه نحو المساق الأكاديمي، بقدر ما هو دعوة إلى أن نعي جميعا أهمية تحديد الهدف من الدراسة ما بعد الجامعية، فالمجال الأكاديمي بالتأكيد ليس أقل أهمية من المجال المهني. فلكل مجال اختصاصه وأهدافه وفوائده على المجتمع وعلى الشخص نفسه لكنها مختلفة والخلط بينهم يؤدي إلى عدم كفاءة مهنية كما يؤدي إلى تراجع دور البحث العلمي إذا كانت رغبة الباحث في الأساس هي مجرد التقدم المهني وليس تطوير العلم نفسه.